مواقف رائدة:الإمام المراغي همّ أمة لا همّ منصب اعتاد كثير من
المغرضين على اتهام الأزهر، واختلاق المقالب الشائنة لرجاله، وهم إذ يلصقون التهم
الآثمة بهم إلصاقًا يتجافى عن الحق والإنصاف، إنما يهاجمون الإسلام نفسه من وراء
ستار ليحققوا مآرب خبيثة لا يقدرون على البوح بها علانية، ولا جرم فقد (بَدَتِ
الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)[آل
عمران:118].
ونحن إذا تصفحنا مواقف تاريخنا الحديث نجد لأعلام الأزهر
في الذود عن الحق والوقوف في وجه الباطل آيات رائعة يفوح منها الشذا العاطر، وتؤكد
وراثة الأنبياء في قوم يخشون الله حق خشيته، ومن المؤسف أن هذه المواقف الخالدة -
على كثرتها المشرفة - لم تجد من أحصاها في كتاب أو دونه في تاريخ، إذ أن الرهبة
المرعبة من أصحاب النفوذ ساعدت على كتمان هذه المجابهات الصريحة، إلا ما تناثر على
الأفواه من أحاديث تتخذ الحيطة الكاملة في تردادها وتداولها بين الناس، ومع هذا
التكتم الصريح فقد وعت ذاكرة التاريخ مثلاً رائعًا لجماعة مؤمنة يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر من العلماء الأفذاذ!
وها نحن أولاء نسطر في مقالنا بعض هذه الروائع الغالية
ليعلم من لم يكن يعلم أن من علماء الأزهر من حملوا مشعل الحق في الدعوة إلى الله،
فأثبتوا لذوي الإنصاف أن الروح القرآنية التي ألهمت سعيد بن جبير، وسعيد بن
المسيب، والأوزاعي، وابن حنبل، والعز بن عبد السلام - في القديم - هي نفسها الروح
القوية التي سرت في نفوس علماء الأزهر، فواجهوا الباطل بلسان صدق مبين، ونحن نسجل
بعض هذه المفاخر لا لنقول أولئك آبائي، بل لنقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو
زاهق.
ولد الشيخ محمد مصطفى المراغي في 9 مارس عام
1881م في
بلدة "مراغة" بمحافظة سوهاج في صعيد مصر، وأتم حفظ القرآن الكريم في سن
مبكرة في كتَّاب
القرية، ثم التحق بالأزهر الشريف وتلقى فيه العلم على يد كبار العلماء
والمشايخ الذين كان أبرزهم
الشيخ محمد عبده الذي أثر في تكوينه، وتوثقت علاقته به، حيث درس عليه التاريخ والاجتماع والسياسة.
وفي عام 1904 م تخرج الشيخ
"المراغي" في
الأزهر بعد حصوله على الشهادة العالمية وكان ترتيبه الأول على زملائه، وكان عمره
آنذاك ثلاثة وعشرين عاماً، وكان
من أصغر علماء الأزهر سناً في ذلك الوقت وإن كان لا يقل عنهم علماً.. وفي سنة التخرج اختاره
أستاذه الشيخ محمد عبده ليعمل قاضيّا في مدينة "دنقلة" بالسودان، حيث استمر
الشيخ "المراغي" في وظيفته تلك لمدة ثلاث سنوات إلى أن قدم استقالته عام 1907م بسبب خلافه مع
الحاكم العسكري الإنجليزي التابع للتاج البريطاني الذي كان يحتل السودان وقتها.
عاد الشيخ "المراغي" لمصر، وظل
يتدرج في مناصب القضاء حتى تولي
رئاسة المحكمة الشرعية العليا عام 1923م.
وبعد تلك الرحلة الطويلة، تم تعيين الشيخ
"المراغي" شيخاً للأزهر في عام 1928م، وكان لم يتجاوز السابعة والأربعين من عمره بعد، وعُد
بذلك أصغر من تولى منصب مشيخة الأزهر،وإن كان من أكثرهم علماً وفضلاً.تولى الشيخ "المراغي" مهام منصبه،
وكان همه الأول
إصلاح الأزهر الذي كان بدأ يفقد بريقه وبعضاً من سلطاته، وبذل الشيخ محاولات
مضنية في سبيل ذلك، وكان من
أبرز ملامح المشروع الإصلاحي للشيخ "المراغي" الاهتمام
بإصلاح القضاء؛ لتحقيق العدل
بين الناس، وسعى الشيخ لإتباع أسلوب جديد مع المتقاضين حيث كان يحاول أن يوفق بينهما دون اللجوء
للتقاضي، إلا أنه لم يخرج في ذلك عن حكم الكتاب والسنة. كذلك شكل لجنة برئاسته تتولى
مهمة إعداد قانون يكون هو الركيزة الأساسية للأحوال الشخصية في مصر، وقد وجه الإمام
المراغي أعضاء اللجنة المكلفة بإعداد القانون بعدم التقيد بمذهب معين، حيث كان القضاة لا
يحيدون عن مذهب الإمام أبي حنيفة حيث كان هو المعمول به في هذا الوقت، إلا أن
الشيخ "المراغي" كان يرى ضرورة الأخذ بغيره من المذاهب إذا كان فيها ما يتفق مع
مصلحة العباد.
كذلك اهتم الشيخ "المراغي" بإصلاح مؤسسة
الأزهر، حيث كان هذا الهدف على رأس أولوياته؛ فقام بإنشاء ثلاث كليات تكون مدة الدراسة فيها
أربع سنوات تتخصص إحداها في علوم اللغة العربية، وهي كلية اللغة العربية، والثانية
في علوم الشريعة وهي كلية الشريعة والقانون، والثالثة في علوم أصول الدين وهي كلية أصول
الدين، كما حث الطلاب إلى دراسة اللغات الأجنبية ليكونوا أكثر قدرة على نشر
الإسلام والثقافة الإسلامية لغير المسلمين في كل أنحاء العالم، وكذلك شكل لجنة للفتوى
داخل الجامع الأزهر تتكون من كبار العلماء تكون مهمتها الرد على الأسئلة الدينية التي
تتلقاها من الأفراد والهيئات، كما شكل أكبر هيئة دينية في العالم الإسلامي،
وهي جماعة كبار العلماء، والتي تتكون من ثلاثين عضوًا، واشترط الشيخ
"المراغي" في عضويتها أن يكون العضو من العلماء الذين لهم إسهام في الثقافة الدينية،
وأن يقدم رسالة علمية تتسم بالجرأة والابتكار.ولقد قال بعض معاصريه (إن جوهر قد بني الحجر،المراغي قد
بني الجوهر)
وكذلك شكل الشيخ "المراغي" – فور
توليه مشيخة الأزهر – لجانًا لإعادة النظر في قوانين الأزهر، ومناهج الدراسة فيه، كما قدم
قانونا لإصلاح وضع الأزهر للملك فؤاد الأول – الذي كان مشرفاً على شئون الأزهر
آنذاك – إلا أن بعض حاشية السوء أوعزوا للملك أن الشيخ "المراغي" يريد
استقلال الأزهر عن القصر، فرفض الملك فؤاد القانون، وأعاده إلى الشيخ المراغي. فما
كان من الشيخ المراغي إلا أن وضع القانون الخاص بإصلاح الأزهر في ظرف، واستقالته من مشيخة
الأزهر في ظرف آخر، وطلب من الملك فؤاد حرية الاختيار، فقبل الملك فؤاد الاستقالة.
وهكذا، كان كثرة العقبات سبباً رئيسياً في استقالة الشيخ
"المراغي" من منصبه في أكتوبر من عام 1929 م، حيث كان يعتبر الوظيفة تكليفاً وواجباً
وهماً، وليست مجرد تشريف، إلا أنه وعقب الاستقالة قامت عدة مظاهرات نظمها طلاب
الأزهر وعلماؤه مطالبين بعودة الشيخ "المراغي" للأزهر لاستكمال مسيرته الإصلاحية..
وبالفعل كان من أثر تمسك علماء الأزهر بمطالبهم وثباتهم على مواقفهم أن انصاعت
السلطة الغاشمة لطلباتهم ورجع الشيخ "المراغي" شيخاً
للأزهر مرة أخرى في إبريل عام
1935م، وظل في منصبه لمدة عشر سنوات، حتى وافته المنية في يوم 22 أغسطس من عام 1945م، عن عمر
يناهز الرابعة والستين.
ويذكر أنه كان للشيخ "المراغي" رحمه الله عدة
مواقف تثبت أنه كان يحمل هم الأمة وهم دينها لا هم المنصب.. ففي عــام 1941م كانت مصــر تــوشك
أن تــدخل الحرب إلى جــانب بــريطانيا ضد قــوات المحور التي تجتاح شمــال
أفريقــيا، وكــان المصريون يعلمون أن دخول الحرب يــأتي ضد مصلحتهم، فهي حرب بين قوتين
صليبيتين، قوة الحلفاء بزعامة بريطانيا من جهة وقوة المحور بزعامة ألمانيا من جهة
أخرى، وكلاهما معادٍ للإسلام، فهي حرب بين إبليس والشيطان، ولكن مصــر دولة محتلة
مــن قبل بريطانيا وتحكم من خلال حكومة موالية للمحتل، فكان من الطبيعي أن تصدر قرارات الحكومة المصرية
لمصلحة المحتل حتى وان كانت تتعارض مع مصلحة مصر، والشعب المصري كأي شعب محتل كان
مغلوباً على أمره، ولا يستطيع التعبير عن رأيه، وكان الأمر يحتاج إلى نوعية من
الرجال تستطيع أن تصدع بالحق أمام الطغاة والمتجبرين، لا تخاف في الله لومة لائم، ولا
تلتفت إلى ما قد يلحقهم من ضرر في النفس أو المنصب، وكان الشيخ "المراغي" من هذه
النوعية من الرجال، حيث صعد إلى منبر الأزهر ليصدع بمقولته المشهورة: "أنه لا
ناقة لنا ولا جمل في هذه الحرب"، وقد سرت كلمته في المجتمع المصري سريان النار في
الهشيم، فالكل يتحدث بما قاله إمام الجامع الأزهر ويستحسن هذا القول ويؤيده، ومن لم
يستطع أن يعبر عن رأيه بالأمس أصبح يتحدث أمام الجماهير وبالمنتديات العامة عن الويلات
التي قد تجرها هذه الحرب على مصر، واستشاطت الحكومة الإنجليزية غضبا من تصريحات
شيخ الأزهر ورأت أنها في غير صالحها،فأمرت رئيس الحكومة المصرية بإجبار شيخ الأزهر
على التراجع عن تصريحاته،وتحدث رئيس الحكومة المصرية بلهجة حادة مع الشيخ المراغي
وصب جام غضبه عليه وقال له لا شأن لك بالسياسة وإلا طلبنا عزلك،فثار الشيخ المراغي
وقال لرئيس الحكومة (أمثلك يهدد شيخ الأزهر إنني أستطيع بخطبة من على منبر الأزهر
خلعك من الوزارة) فما كان من رئيس الحكومة إلا أن أذعن واعتذر للشيخ
المراغي،واضطرت الحكومة المصرية أمام هذا الضغط الشعبي الهائل إلا أن تدعو
البرلمان المصري للانعقاد لتعلن أمام النوّاب قرارها بعدم دخول مصر
الحرب، وتطلب منهم المصادقة عليه، وتمت مصادقة النوّاب على هذا القرار بالإجماع،
ليرجع الفضل في ذلك لقوة الشيخ "المراغي" وجرأته في الحق وحرصه على النصح للأمة قدر
استطاعته. كان الشيخ المراغي حازماً في قضاياه لا ترهبه سلطة
أو يخضع لابتزاز، ونذكر له هنا من مواقفه المشرفة عندما طلق الملك فاروق زوجته
الملكة فريدة، أراد الملك أن يُحرم عليها الزواج من بعده، ورفض المراغي أن يصدر
فتوى بذلك، وذهب الملك إليه، وكان يعالج في مستشفى المواساة إثر إصابته بماء
النار، فقال المراغي كلمته المشهورة: فأما الطلاق فلا أرضاه، وأما التحريم فلا
أملكه. ولما غلظ عليه فاروق صاح الشيخ: إن المراغي لا يستطيع أن يُحرم ما أحل
الله. وموقف أخر يصدع فيه الشيخ المراغي بالحق،يوم أن كان حاكم مصر يقضى أجازته في
أوربا وطلب من الحكومة زيادة مخصصاته المالية لمواجهة تكاليف الرحلة- رغم ما يعانيه
اغلب الشعب المصري من الفقر- وما أن علم الشيخ المراغي ذلك حتى ثار ثورة عارمة
وزأر من على منبر الأزهر منددا بهذا الإسراف معلنا مقولته الشهيرة(تقتير هنا
وإسراف هناك) مما أضطر الحكومة المصرية إلى عدم الموافقة على زيادة نفقات الحاكم.
وقد
ترك الشيخ "المراغي"
رحمه الله تراثاً فكرياً متنوعاً، تناول فيه قضايا شتى، فقد صنف في
التفسير، والفقه، واللغة، ومن
أهم هذه المؤلفات: "الأولياء والمحجورون"، وهو بحث فقهي تناول فيه الشيخ المراغي الحجر على
السفهاء، وكذلك "تفسير جزء تبارك"، وقد قصد من هذا التفسير أن يكون مكملاً لتفسير جزء عم
الذي وضعه أستاذه الشيخ محمد عبده، وكذلك "بحث في وجوب ترجمة القرآن
الكريم"، إضافة لمباحث لغوية بلاغية، ودروس دينية نشرت بمجلة الأزهر تشتمل على تفسير
لبعض سور القرآن الكريم، وتضم الدروس التي ألقاها الشيخ "المراغي" في المساجد
الكبرى في القاهرة والإسكندرية.
رحم
الله الشيخ "المراغي" وأسكنه فسيح
جناته